
أدرك الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود في وقت مبكر أن مستقبل المملكة ونهضتها الحقيقية لا يعتمدان فقط على توحيد الأراضي وبناء مؤسسات الدولة بل يرتكزان بشكل أساسي على إعداد جيل متعلم وواع قادر على المضي بوطنه نحو التقدم والرفعة بين الأمم وهذه الرؤية الثاقبة دفعته إلى إيلاء اهتمام شخصي بالعلم والثقافة.
وتؤكد العديد من المصادر التاريخية أن شخصية الملك عبدالعزيز لا تقتصر على جوانب الكفاح العسكري والإنجازات السياسية بل تمتد لتشمل جوانب إنسانية وثقافية عميقة وهذا ما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي أكد أن تاريخ الملك المؤسس يزخر بالجوانب التي تبرز شخصيته الإنسانية.
كانت علاقة الملك عبدالعزيز بالعلم وثيقة ومتجذرة في حياته اليومية فعلى الرغم من انشغاله بمهام الحكم الجسيمة كان يحرص على تخصيص وقت للقراءة والاطلاع والمعرفة وكان له مجلس علمي يومي ينعقد في قصره بعد صلاة العشاء حيث يستمع إلى قارئ متخصص يقرأ عليه في أمهات كتب العلم والتاريخ والفقه وغالبا ما كانت هذه الجلسات تتحول إلى حلقات نقاش وحوار يشارك فيها الحاضرون من العلماء والمفكرين.
ولم يكن شغفه بالمعرفة يقتصر على أوقات الاستقرار في قصره بل كان العلم رفيقه الدائم في حله وترحاله وتشير الروايات إلى أنه كان يأمر أحد طلاب العلم بمرافقته في أسفاره لقراءة كتب مثل صحيح مسلم وتاريخ ابن الأثير والترغيب والترهيب أثناء المسير مما يعكس ارتباطه العميق بالاستزادة من المعرفة في كل الظروف.
وتعتبر كلمته التي ألقاها في حفل تخرج طلاب المعهد العلمي السعودي عام 1350 هجرية الموافق 1931 ميلادية من الشواهد البارزة على فكره التربوي ورؤيته للمستقبل حيث وجه حديثه للشباب قائلا إنهم أول ثمرة من غرسه وحثهم على أن يعرفوا قدر العلم الذي تلقوه مؤكدا أن العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر كما دعاهم إلى بناء أمجادهم والحفاظ على شرف بيوتهم.
وفي ذات الكلمة شدد الملك عبدالعزيز على أهمية الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية باعتبارها ركيزة الانتماء والنهضة وذكرهم بأن الرسول الكريم بعث من العرب وأن القرآن نزل بلسان عربي مبين داعيا إياهم إلى تقدير ذلك والمحافظة على الدين واللغة والوطن.
ولم يكتف الملك عبدالعزيز بالتشجيع الشفهي بل حول اهتمامه بالعلم إلى مشروع عملي ضخم تمثل في طباعة ونشر آلاف الكتب على نفقته الخاصة وتوزيعها مجانا داخل المملكة وخارجها وقد بدأ هذا المشروع بشكل منظم منذ عام 1353 هجرية واستمر حتى وفاته حيث شمل طباعة نفائس كتب التراث والعلوم الشرعية والأدب وتفاسير القرآن الكريم.
وتشير السجلات إلى أن أعداد الكتب التي أمر بطباعتها وتوزيعها بلغت أرقاما هائلة ففي خبر نشرته جريدة أم القرى ذكر أنه أمر بطباعة 64 ألف كتاب خلال عامين ثم ارتفع العدد بعد عام واحد ليتجاوز 100 ألف نسخة وزعت جميعها على طلبة العلم والمكتبات العامة في العالمين العربي والإسلامي.
ولدعم هذه الحركة الثقافية عمل على تأسيس بنية تحتية للنشر والطباعة فشهد عهده تجديد المطبعة الحكومية في مكة المكرمة التي أصبحت تعرف لاحقا بمطبعة أم القرى وتولت طباعة الأنظمة الحكومية والجريدة الرسمية والمناهج الدراسية إلى جانب الكتب العلمية والثقافية كما أصدر نظامين للمطبوعات في عامي 1347 و 1358 هجرية لتنظيم هذا القطاع.
وامتد دعمه ليشمل المطابع الأهلية حيث أمر بإعفاء واردات الورق وآلات الطباعة من الرسوم الجمركية مما شجع على ظهور مطابع جديدة في مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة وأسهم في تنشيط حركة التأليف وتحقيق المخطوطات وزيادة الإنتاج الفكري في البلاد.
وتعد مكتبته الخاصة التي خلفها دليلا آخر على شغفه الكبير بالمعرفة فقد ضمت أكثر من 3000 كتاب ومجلد ودورية نادرة جمعها طوال حياته وتعتبر اليوم من المصادر المهمة لتاريخ المملكة الحديث وتوثق علاقته الوثيقة بالعلم والمعرفة والعلماء في عصره.
وكانت مجالسه في القصر خاصة بعد مواسم الحج تتحول إلى منتديات ثقافية وفكرية حيث كان يستقبل الضيوف والزوار من مختلف البلدان ويعقد مجالس العلم التي يلقي فيها كبار العلماء دروسا في الحديث والفقه وبعد انتهاء الدرس كان الملك عبدالعزيز يتحدث إلى الحاضرين بأسلوبه الملهم غارسا فيهم قيم الحوار والنصح والعمل الصالح.
كما حرص الملك عبدالعزيز على إيصال هذه الكتب إلى مستحقيها فأمر بتخصيص نسخ كاملة من جميع المطبوعات لمكتبة الحرم المكي والمعهد الشرعي بالطائف والمكتبات العامة بالإضافة إلى توزيعها على طلاب كلية الشريعة مجانا وكان يتابع شخصيا وصول هذه المطبوعات إلى أيدي طلاب العلم في كل مكان.