
يثير الانتشار المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتغلغلها في مختلف جوانب الحياة اليومية تساؤلات جدية حول مستقبل الإبداع البشري حيث أصبحت القدرة على توليد النصوص والمواد المرئية بضغطة زر واقعا متاحا للجميع وهو ما يلقي بظلاله على المهارات الإبداعية خاصة لدى الأجيال الناشئة.
كشفت دراسة بارزة أجريت بتكليف من وكالة ناسا عن نتائج مقلقة حول تراجع مستويات الإبداع مع التقدم في العمر وأظهرت أن 98% من الأطفال في سن الرابعة والخامسة يمتلكون مؤشرات على عبقرية إبداعية لكن هذه النسبة تهبط بشكل حاد إلى 30% فقط عند بلوغهم سن العاشرة ولا تتجاوز 2% لدى البالغين مما يشير إلى وجود عوامل خارجية تحد من هذه الملكة الفطرية.
وأرجعت الدراسة هذا الانخفاض الملحوظ إلى الأنظمة التعليمية التقليدية بشكل أساسي فهذه الأنظمة غالبا ما تتبع نهجا موحدا يمنح الأولوية للمواد الأكاديمية على حساب الأنشطة والمواضيع الإبداعية مثل الفنون مما يفرض قيودا على الخيال ويحد من القدرة على التفكير الأصيل لدى الطلاب.
ويتفاقم هذا التحدي مع الاستخدام المكثف للحلول الرقمية في التعليم حيث يقضي الطلاب سواء كانوا أطفالا أم كبارا وقتا طويلا أمام الشاشات في استهلاك سلبي للمحتوى بدلا من الانخراط في ابتكار نشط وقد أدى هذا الوضع إلى ظهور ما يعرف بالإرهاق الرقمي الذي يقلل من فرص التعلم الاستكشافي والتجربة العملية التي تعتبر محفزا أساسيا للقدرات الإبداعية.
ويمثل هذا التراجع في الإبداع مؤشر خطر لا يمكن تجاهل تبعاته فالعالم اليوم يواجه تحديات مصيرية ملحة بدءا من التغير المناخي وصولا إلى الآثار السلبية للتحول الرقمي وهذه المشكلات تتطلب أكثر من أي وقت مضى جيلا جديدا من المفكرين المبتكرين الذين يمتلكون الشجاعة الإبداعية والأفكار الأصيلة.
وعلى الرغم من أن التكنولوجيا قد تبدو جزءا من المشكلة إلا أنها عند استخدامها بالشكل الصحيح يمكن أن تكون أداة تمكين قوية لدعم الابتكار والخيال فالأدوات البصرية والبرمجيات التي تركز على التصميم والتجارب التفاعلية توفر منصات مثالية للطلاب والمبدعين لتحويل أفكارهم المجردة إلى مشاريع عملية وملموسة.
إن تمكين الجيل القادم من المبتكرين يتطلب ضمان سهولة الوصول إلى التقنيات المبدعة وجعلها متاحة للجميع فالابتكار يبدأ من الخيال لكنه يزدهر في بيئة داعمة تقدر الإبداع وتعتبره مهارة أساسية لا تقل أهمية عن المهارات الأكاديمية الأخرى.
وتشير اتفاقيات دولية مثل اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل إلى أن التعليم يعد ركيزة أساسية لنمو الطفل وتطوير مهاراته وهو ما يجب أن يشمل الأنشطة التي تتم خارج الفصول الدراسية أيضا حيث يوضح خبراء أن البرامج المنظمة في مجالات الرياضة والفنون والاستكشاف الإبداعي تسهم بشكل كبير في تحسين الأداء الأكاديمي وتعزيز المرونة العاطفية والثقة بالنفس.
لذلك يجب على المدارس والشركات على حد سواء التحول من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإبداع وذلك من خلال تشجيع الأفكار الجريئة وتوفير الحلول التي تمكن الأفراد من التخيل بحرية والإبداع بلا قيود فهذا هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل قادر على مواجهة تحدياته.