يعاني قطاع عريض من الناس حول العالم من صعوبات في النوم، وهي ظاهرة قد تبدو مألوفة وعابرة للوهلة الأولى، إلا أن استمرارها لفترات طويلة يحولها من مجرد إزعاج ليلي مؤقت إلى مؤشر حيوي يستوجب الانتباه والتدخل الطبي، فالمسألة تتجاوز مجرد قضاء ليلة سيئة؛ إذ يصبح الوضع مقلقًا عندما يتحول الحرمان من الراحة إلى نمط مزمن يؤثر سلبًا على الصحة العامة.

وفي هذا السياق، تضع الخبيرة الألمانية المتخصصة في طب النوم، البروفيسورة كنيغينجا ريشتر، معايير واضحة لتحديد التوقيت المناسب لطلب المساعدة المتخصصة؛ فهي ترى أن تكرار نوبات الأرق لأكثر من ثلاث ليالٍ أسبوعيًا، واستمرار هذه المعاناة لمدة تتجاوز الثلاثة أشهر، يعد جرس إنذار لا ينبغي تجاهله. وتزداد ضرورة الزيارة الطبية عندما تترافق قلة النوم مع تداعيات جسدية وذهنية ملموسة خلال ساعات النهار، مثل تشتت الانتباه، والصداع المزمن، والشعور المستمر بالإنهاك الذي يعيق الفرد عن إنجاز مهامه اليومية أو يؤدي إلى تراجع ملحوظ في كفاءته وإنتاجيته.

إن تأثيرات هذا الاضطراب تمتد لتلقي بظلالها الثقيلة على كافة مناحي الحياة؛ فالشخص المصاب يجد عادة صعوبة بالغة في مغادرة الفراش صباحًا، ويظل أسيرًا للتعب طوال اليوم، مما ينعكس سلبًا على ذاكرته وقدرته على التركيز سواء في بيئة العمل أو الدراسة، ومع مرور الوقت، قد تتطور هذه الحالة لتفتح الباب أمام مشكلات نفسية أكثر تعقيدًا كالقلق والاكتئاب، مما يستدعي حلولًا جذرية. ولحسن الحظ، تبرز تقنيات “العلاج السلوكي المعرفي” كخيار أمثل وفعال، حيث لا تكتفي بالحلول المؤقتة، بل تعمل على إعادة تشكيل الأفكار والعادات السلوكية المسببة للأرق. ويتضمن هذا المسار العلاجي، الذي يمتد عادة لما بين أربع إلى ست جلسات تستغرق الواحدة منها قرابة الخمسين دقيقة، تدريبًا مكثفًا على الاسترخاء وفهمًا أعمق لطبيعة النوم، مما يمنح المريض أدوات مستدامة لاستعادة راحته المفقودة.

وبموازاة العلاج المختص، يلعب ضبط نمط الحياة دورًا جوهريًا في تحسين جودة النوم والوقاية من اضطراباته، إذ يُنصح بضرورة ضبط الساعة البيولوجية من خلال الالتزام بمواعيد نوم واستيقاظ ثابتة حتى في أيام العطلات، مع الحرص على تهيئة غرفة النوم لتكون ملاذًا يتسم بالهدوء والظلام ودرجة الحرارة المعتدلة. كما يُعد الابتعاد عن المنبهات والوجبات الدسمة في الساعات الأخيرة من اليوم، والمواظبة على النشاط البدني في أوقات مبكرة بعيدًا عن وقت النوم، من الركائز الأساسية التي تساعد الجسم على الاسترخاء والدخول في نوم عميق وصحي، مما يؤكد أن التعامل الجدي مع الأرق هو الخطوة الأولى نحو حياة أكثر صحة ونشاطًا.