لقد بات استخدام التقييمات النفسية في الآونة الأخيرة يمثل ثغرة قانونية مثيرة للقلق، حيث تحولت هذه الأداة العلمية -التي وُجدت أساساً لضمان العدالة وتحديد المسؤولية الجنائية بدقة- إلى ذريعة يستغلها بعض مرتكبي الجرائم للهروب من العقاب. وتتم هذه العملية عبر تقديم تقارير طبية مشكوك في نزاهتها، تزعم أن الجاني يعاني من غياب للإدراك أو الأهلية العقلية، مستندين في ذلك إلى وثائق قد تكون مزورة أو صادرة بطرق تفتقر إلى الأمانة المهنية.
يشكل هذا التلاعب بالمستندات الطبية ضربة موجعة لنزاهة النظام القضائي، مما يؤدي إلى زعزعة ثقة المجتمع في منظومة العدالة، ويزيد من مرارة الظلم الواقع على الضحايا وذويهم. فالأصل في الفحص النفسي الجنائي أن يكون إجراءً صارماً ومحايداً، لا أن يتحول إلى مظلة تحمي المعتدين من تبعات أفعالهم. ومن الضروري هنا تصحيح المفاهيم المغلوطة؛ ففقدان الإدراك التام الذي يرفع المسؤولية الجنائية هو حالة نادرة للغاية تشبه الجنون المطبق، وتستوجب وجود تاريخ مرضي طويل وأعراض واضحة كانفصال الشخص عن واقعه، ولا يمكن إثباتها بمجرد ورقة عابرة.
ومن الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها البعض هو الخلط بين وجود اضطراب نفسي وبين انعدام المسؤولية الجنائية؛ إذ يوجد ملايين البشر حول العالم يتعايشون مع مشكلات نفسية متنوعة، ومع ذلك يمارسون حياتهم ووظائفهم بكامل وعيهم، وتظل تصرفاتهم خاضعة للمساءلة القانونية. المفارقة الصارخة تظهر عندما يدعي شخص ما الجنون أو فقدان الأهلية بعد ارتكاب الجريمة مباشرة، بينما سجله الشخصي يخلو تماماً من أي مراجعات طبية سابقة، بل ونجده يشغل وظائف رسمية تتطلب لياقة ذهنية عالية، ويمتلك رخصة قيادة سارية تثبت قدرته على التمييز والتركيز، مما يكشف زيف الادعاءات المفاجئة بعدم الإدراك.
وتتجلى الخطورة الكبرى في انخراط بعض المصحات والمراكز الطبية في هذا الفساد، حيث تتجاوز دورها العلاجي لتصبح شريكة في تضليل العدالة عبر إصدار تقارير مُفصلة خصيصاً لتبرئة المتهمين وإخراجهم من السجون بدلاً من تقديم تشخيص طبي نزيه. إن هذه الممارسات لا تهدر حقوق الضحايا فحسب، بل تؤسس لبيئة خطيرة تشجع على استسهال الجريمة طالما أن هناك مخرجاً طبياً جاهزاً يمكن شراؤه أو تلفيقه.
التعليقات