يُعتبر الاضطراب المعروف بالوسواس القهري عبئًا ثقيلاً يلقي بظلاله على حياة الملايين، حيث يجد المرء نفسه محاصرًا داخل دوامة لا تنتهي من الهواجس الذهنية المُلحّة التي تفرض عليه القيام بطقوس سلوكية محددة، وذلك في محاولة يائسة لإسكات صوت القلق الداخلي ولو لبرهة. هذه الحالة لا تقتصر فقط على الأفكار المزعجة، بل تتجاوزها لتشمل ردود فعل جسدية وهمية، إذ قد يخيّل للمصاب أن هناك كائنات دقيقة تزحف على جلده، أو يشعر برغبة عارمة في الحك نتيجة إحساس زائف بالوخز، مما قد يؤدي به إلى إلحاق الضرر بنفسه وإدماء جلده دون وجود أي مسبب عضوي حقيقي يبرر ذلك.

تكمن جوهرية هذه المعاناة في الخلل الذي يصيب آلية معالجة المخاوف داخل الدماغ، حيث تتحول الأفكار العابرة أو المخاوف الشائعة—كالخوف من التلوث أو الفوضى—إلى سيناريوهات مرعبة تتطلب استجابة فورية. وهنا يقع المريض فريسة لما يسمى بالأفعال القهرية، كالإفراط في النظافة أو التدقيق المتواصل في الأشياء، وهي تصرفات تستهلك طاقته وتُشعره بالإجهاد الشديد والذنب، كونه يدرك في قرارة نفسه عدم منطقية هذه الأفكار لكنه يقف عاجزًا عن مقاومة الدافع المُلِح لتنفيذها تجنبًا لتفاقم التوتر.

ومن الزوايا المعقدة لهذا الاضطراب، قدرة العقل الباطن على ترجمة القلق النفسي إلى أعراض حسية ملموسة، حيث يقوم الدماغ بتفسير إشارات عصبية عادية—مثل ملامسة الملابس للجلد أو تغيرات الحرارة—على أنها تهديدات خارجية تستوجب الدفاع. هذه الظاهرة، التي تُشبه “هلوسة اللمس”، تجعل المصاب يشعر وكأن جسده تحت هجوم مستمر، مما يدفعه لخدش جلده بعنف أو تفقده بشكل هوسِي، وهو ما يزيد الطين بلة ويعزز دورة القلق بدلاً من كسرها، نظرًا لأن الدماغ في هذه الحالة يكون في وضع تأهب قصوى لتفسير أي شعور جسدي على أنه علامة خطر.

وللخروج من هذا النفق المظلم، يعتمد المتخصصون على استراتيجيات علاجية تهدف إلى إعادة برمجة استجابة الدماغ لهذه المحفزات، ويأتي على رأسها العلاج المعرفي السلوكي الذي يدرب المريض على تقبل وجود هذه الأحاسيس دون الانصياع لها، بالإضافة إلى تقنيات “التعرض ومنع الاستجابة” التي تساعد تدريجيًا في تقليل الحساسية تجاه المخاوف. كما قد يساهم التدخل الدوائي بمضادات الاكتئاب، إلى جانب ممارسات الاسترخاء كالتأمل واليوغا، في تهدئة الجهاز العصبي وتخفيف حدة التوهمات الحسية. ويبقى التدخل الطبي المتخصص ضرورة ملحة، خاصة إذا بدأت هذه الاضطرابات تؤثر سلبًا على سير الحياة اليومية، أو تسببت في أذى جسدي مباشر، لضمان وضع خطة علاجية آمنة تعيد للمريض استقراره النفسي والجسدي.