مع حلول مواسم البهجة واقتراب نهاية العام، يبرز التساؤل الدائم حول تلك الشخصية التي تكسوها الملابس الحمراء وتزين واجهات المحلات ومخيلات الأطفال؛ فهل نحن أمام محض خيال ابتدعته الثقافة الشعبية، أم أن لهذا الرمز جذوراً ضاربة في عمق التاريخ؟ الواقع أن القصة هي مزيج ساحر تماهت فيه الحقائق التاريخية مع الروايات الأسطورية لتنتج لنا أيقونة عالمية للعطاء والفرح.
بالعودة إلى الوراء قروناً عديدة، وتحديداً إلى القرن الرابع الميلادي في منطقة “ميرا” التركية، نجد الأساس الواقعي لهذه الشخصية متمثلاً في القديس نيقولاوس. لم يكن هذا الرجل مجرد شخصية دينية تتولى مهام الإشراف الكنسي فحسب، بل عُرف بقلبه الكبير وسعيه الدائم لمساعدة الفقراء والمحتاجين، مفضلاً أن تكون صدقاته في الخفاء لستر كرامة المحتاج. ولعل الرواية الأشهر التي أسست لتقليد تقديم الهدايا هي قصته مع الفتيات الفقيرات، حيث كان يلقي لهن صرر الذهب عبر النوافذ ليحميهن من العوز ويساعدهن على تأسيس حياة كريمة.
بمرور الزمن، سافرت سيرة هذا الرجل الصالح عبر القارات، لتتغير ملامح اسمه من “نيقولاوس” إلى “سانتا كلوز” بفعل التأثيرات اللغوية الهولندية، وصولاً إلى تعريبه باسم “بابا نويل”. ولم يقتصر التغيير على الاسم فقط، بل طال الهيئة الشكلية؛ فبعد أن كانت مرتبطة بزي رجال الدين، تدخل الخيال الأدبي والرسومات الفنية ثم الحملات الدعائية التجارية الحديثة لرسم الصورة الذهنية الحالية: ذلك الرجل البدين ذو الوجه البشوش والضحكة المميزة. ومن الجدير بالذكر أن رداءه الأحمر الشهير ليس مجرد ابتكار إعلاني كما يظن البعض، بل هو امتداد للون الثياب التي كان يرتديها الأساقفة قديماً، وإن كانت الماكنة الإعلامية قد ساهمت في تثبيت هذا الشكل عالمياً.
واليوم، تجاوز “بابا نويل” كونه رمزاً دينياً أو تاريخياً ليصبح ظاهرة اجتماعية ونفسية عابرة للحدود. فهو يمثل للأطفال عالماً من السحر يرسخ لديهم قيم الخير، حيث يرتبط الحصول على الهدايا بالسلوك القويم، مما يعزز الخيال ويخلق ذكريات عائلية دافئة تمنحهم شعوراً بالأمان. كما أصبح هذا الرمز جسراً للتواصل الإنساني والمشاركة الوجدانية بين مختلف أطياف المجتمع، حيث يتشارك الجميع، بغض النظر عن خلفياتهم، في مظاهر الاحتفال والبهجة التي ينشرها هذا الرمز في الساحات والمراكز التجارية، مخففاً بابتسامته المتخيلة وطأة ضغوط الحياة اليومية.
التعليقات