كشفت دراسة بحثية موسعة استغرقت عقدين من الزمن، وشملت عشرات الآلاف من الأشخاص الذين تجاوزوا الخمسين من أعمارهم في الولايات المتحدة، عن وجود صلة وثيقة بين نمط الحياة الاجتماعي وصحة الدماغ. وقد خلص الباحثون إلى أن الانفصال الواقعي عن المحيطين وقلة الاحتكاك بالبشر يعدان المحرك الأساسي لتراجع المهارات الذهنية، مثل ضعف الذاكرة وتشتت الانتباه، وذلك بمعزل عن الحالة الشعورية للفرد؛ إذ يقع الضرر نتيجة غياب التفاعل الفعلي وليس بسبب الشعور النفسي بالوحدة فقط.
وفي سياق تفسير هذه الظاهرة، أوضحت الدكتورة جو هيل، الباحثة بجامعة سانت أندروز، أن العقل البشري يتطلب “تمرينات” يومية تتمثل في الحوارات واللقاءات الهادفة ليبقى في حالة يقظة ونشاط. فالتواصل المستمر مع العائلة والأصدقاء لا يقتصر دوره على الدعم النفسي فحسب، بل يعمل كحصن يحمي الوظائف الإدراكية من التآكل، حيث يؤدي الحرمان من هذه التفاعلات الحيوية إلى خمول الدماغ وتسريع وتيرة التدهور العقلي.
وقد اعتمد الفريق البحثي معايير دقيقة لقياس مستوى الانخراط المجتمعي، تضمنت المشاركة في الأنشطة التطوعية، والتجمعات الدينية، والتواصل الشخصي المباشر. ومن النتائج اللافتة التي نشرتها إحدى الدوريات العلمية المختصة بالشيخوخة، التمييز الواضح بين العزلة الموضوعية والشعور بالوحدة؛ فقد تبين أن نسبة كبيرة ممن يعيشون في عزلة تامة لا يشتكون بالضرورة من الوحدة، ومع ذلك فإن قدراتهم العقلية تتأثر سلباً بسبب غياب النشاط الاجتماعي، مما يشير إلى أن العزلة بحد ذاتها هي الخطر الأكبر على الإدراك.
وتحمل نتائج الدراسة جانباً إيجابياً، حيث أثبتت التحليلات أن كسر طوق العزلة والانتقال إلى نمط حياة أكثر تفاعلاً يساهم بفعالية في حماية القدرات الذهنية وتحسين درجات الذكاء لدى الرجال والنساء على حد سواء، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو مستوياتهم التعليمية. ورغم أن الفارق الرقمي في التحسن قد يبدو بسيطاً، إلا أنه يحمل دلالات إحصائية هامة عند مقارنته بالتراجع الطبيعي والمتوقع للوظائف العقلية مع التقدم في العمر، مما يجعل الحفاظ على الروابط الاجتماعية ضرورة صحية ملحة.
التعليقات